سورة آل عمران - تفسير تفسير الثعالبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


فقال تعالى: {فأما الذين كفروا} الذين جحدوا نبوة عيسى وخالفوا ملته وقالوا فيه ما قالوا من الباطل ووصفوه بما لا ينبغي من سائر اليهود والنصارى {فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا} يعني بالقتل والسبي والذلة وأخذ الجزية منهم {والآخرة} أي وأعذبهم في الآخرة بالنار {وما لهم من ناصرين} يعني ما نعين يمنعونهم من عذابنا {وأما الذين آمنوا} يعني بعيسى عليه السلام وصدقوا بنبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته {وعملوا الصالحات} يعني عملوا بما فرضت عليهم وشرعت لهم {فيوفيهم أجورهم} يعني جزاء أعمالهم لا ينقص منه شيء {والله لا يحب الظالمين} أي لا يحب من ظلم غيره حقاً له أو وضع شيئاً في غير موضعه والمعنى أنه تعالى لا يرحمهم ولا يثني عليهم بجميل ثم قال تعالى: {ذلك} يعني الذي ذكرته لك من أخبار عيسى وأمه مريم والحواريين وغير ذلك من القصص {نتلوه عليك} أي نخبرك به يا محمد على لسان جبريل، وإنما أضاف ما يتلوه جبريل عليه السلام إلى نفسه سبحانه تعالى لأنه من عنده وبأمره من غير تفاوت أصلاً فأضافه إليه {من الآيات} يعني من القرآن وقيل الآيات يعني العلامات الدالة على نبوتك يا محمد لأنها أخبار لا يعلمها إلاّ من يقرأ ويكتب أو نبي يوحى إليه وأنت أمي لا تقرأ ولا تكتب فثبت أن ذلك من الوحي السماوي الذي أنزل عليك {والذكر الحكيم} أي المحكم الممنوع من الباطل قيل المراد من الذكر الحكيم القرآن لأنه حاكم يستفاد منه. جميع الأحكام وقيل: الذكر الحكيم هو اللوح المحفوظ الذي منه تنزلت جميع كتب الله على رسله وهو لوح من درة بيضاء معلق بالعرش.
قوله عز وجل: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب} الاية. أجمع أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في محاجة نصارى وفد نجران قال ابن عباس: إن رهطاً من أهل نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم: كان فيهم السيد والعاقب فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شأنك تذكر صاحبنا فقال من هو؟ قالوا: عيسى تزعم أنه عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجل إنه عبد الله فقالوا له: فهل رأيت له مثلاً أو أنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده فجاءه جبريل عليه السلام فقال: قل لهم إذا أتوك إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب وقيل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول فغضبوا وقالوا: يا محمد هل رأيت إنساناً قط من غير أب؟ فأنزل الله تعالى: {إن مثل عيسى عند الله} أي في الخلق والإنشاء في كونه خلقه من غير أب كمثل آدم في كونه خلقه من تراب من غير أب وأم، ومعنى الاية أن صفة خلق عيسى من غير أب كصفة آدم في كونه خلقه من تراب لا من أب وأم، فمن أقر بأن الله خلق آدم من التراب اليابس وهو أبلغ في القدرة، فلم لا يقر بأن الله خلق عيسى من مريم من غير أب بل الشأن في خلق آدم أعجب وأغرب وتم الكلام عند قوله كمثل آدم لأنه تشبيه كامل ثم قال تعالى: {خلقه من تراب} فهو خير مستأنف على جهة التفسير لحال خلق آدم في كونه خلقه من تراب أي قدره جسداً من طين {ثم قال له كن} أي أنشأه خلقاً بالكلمة، وكذلك عيسى أنشأه خلقاً بالكلمة فعلى هذا القول ذكروا في الآية إشكالاً وهو أنه تعالى قال: خلقه من تراب ثم قال له: كن فهذا يقتضي أن يكون خلق آدم متقدماً على قوله كن ولا تكوين بعد الخلق.
وأجيب عن هذا الإشكال بأن الله تعالى أخبر بأنه خلقه من تراب لا من ذكر وأنثى ثم ابتداء خبراً آخر. فقال: إني أخبركم أيضاً اني قلت له كن فكان من غير ترتيب في الخلق كما يكون في الولادة، ويحتمل أن يكون المراد أنه تعالى خلقه جسداً من تراب ثم قال له: كن بشراً فكان يصح النظم وقيل: الضمير في قوله كن يرجع إلى عيسى عليه السلام وعلى هذا إشكال في الآية. فإن قلت: كيف شبه عيسى عليه السلام بآدم عليه السلام وقد وجد عيسى من غير أب ووجد آدم من غير أب ولا أم. قلت: هو مثله في أحد الطرفين فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به، ولأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ولأنه شبه به في أنه وجد وجوداً خارجاً عن العادة المستمرة وهما في ذلك نظيران لأن الوجود من غير أب وأم أغرب في العادة من الوجود من غير أب، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه. وحكي أن بعض العلماء أسر في بلاد الروم فقال لهم: لم تعبد ون عيسى؟ قالوا: لأنه لا أب له قال: فآدم أولى لأنه لا أب له ولا أم قالوا: وكان يحيي الموتى فقال: جزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر وأحيا حزقيل أربعة آلاف: قالوا: وكان يبرئ الأكمه والأبرص قال: فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سليماً وقوله كن {فيكون} قال ابن عباس: معناه كن فكان فأريد بالمستقيل الماضي وقيل: معناه ثم قال له: كن وأعلم يا محمد أن قال له ربك كن فإنه يكون لا محالة.


{الحق من ربك} الذي أخبرتك به من تمثيل عيسى بآدم هو الحق من ربك {فلا تكن من الممترين} أي من الشاكين إن ذلك كذلك وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشك قط فهو كقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} والمعنى فلا تكن من الممترين يا أيها السامع كائناً من كان لهذا التمثيل والبرهان الذي ذكر فهو من باب التهيج لزيادة الثبات والطمأنينة.
قوله عزّ وجلّ: {فمن حاجك فيه} أي فمن جاد لك في عيسى وقيل في الحق {من بعد ما جاءك من العلم} يعني بأن عيسى عبد الله ورسوله {فقل تعالوا} أي هلموا والمراد منه المجيء وأصله من العلو بالرأي والعزم كما تقول تعالى نتفكر هذه المسألة {ندع أبناءنا وأبناءكم} أي يدع كل منا ومنكم إبناءه {ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم} قيل: أراد بالأبناء الحسن والحسين وبالنساء فاطمة وبالنفس صلى الله عليه وسلم وعلياً رضي الله عنه وقيل هو على العموم لجماعة أهل الدين {ثم نبتهل} قال ابن عباس: نتضرع في الدعاء وقيل: معناه نجتهد ونبالغ في الدعاء. وقيل: معناه نلتعن والابتهال الالتعان يقال عليه بهلة الله أي لعنة الله {فنجعل لعنة الله على الكاذبين} يعني منا ومنكم في أمر عيسى قال المفسرون: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غداً فلما خلا بعضهم ببعض قالوا للعاقب: وكان كبيرهم وصاحب رأيهم ما ترى يا عبد المسيح قال لقد عرفتم ما معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل، ولئن فعلتم ذلك لتهلكم فإن أبيتم إلاّ الإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي يمشي خلفها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: «إذا دعوت فأمنوا» فلم رآهم أسقف نجران قال: يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل أهله لأزاله من مكانه فلا تبتهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نباهلك وأن نتركك على دينك وتتركنا على ديننا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فأبوا ذلك. فقال: إني أناجز فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكنا نصالحك على ما لا تغزونا ولا تخفينا ولا تردنا عن ديننا وأن نؤدي إليك في كل سنة ألفي حلة ألف في صفر وألف في رجب زاد في رواية وثلاثاً وثلاثين درعاً عادية وثلاثة وثلاثين بعيراً وأربعاً وثلاثين فرساً غازية فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال: «والذي نفسي بيده إن العذاب تدلى على أهل نجران ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا» فإن قلت ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلاّ لتبيين الصادق من الكاذب منه ومن خصمه وذلك يختص به وبمن يباهله فما معنى ضم الأبناء والنساء في المباهلة. قلت ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه، فلذلك ضمهم في المباهلة، ولم يقتصر على تعريض نفسه لذلك وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك استئصال إن تمت المباهلة، وإنما خص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلب وربما فداهم الرجل بنفسه، وحارب دونهم حتى يقتل وإنما يقتل وإنما قدمهم في الذكر على النفس لينبه بذلك على لطف مكانهم وقرب منزلتهم، وفيه دليل قاطع وبرهان واضح على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ومخالف أنهم أجابوا إلى المباهلة لأنهم عرفوا صحة نبوته وما يدل عليها في كتبهم.


قوله تعالى: {إن هذا} يعني الذي قص عليك يا محمد من خبر عيسى عليه السلام وأنه عبد الله ورسوله {لهو القصص الحق} وأصله من القصص وهو تتبع الأثر والقصص الخبر الذي تتتابع فيه المعاني {وما من إله إلاّ الله} إنما دخلت من لتوكيد النفي والمعنى أن عيسى ليس بإله كما زعمت النصارى ففيه رد عليهم ونفي جميع من ادّعى من المشركين أنهم آلهة وإثبات الإلهية لله تعالى وحده لا شريك له في الإلهية {وإن الله لهو العزيز} أي الغالب المنتقم ممن عصاه وخالف أمره وادّعى معه إلهاً أخر {الحكيم} يعني في تدبيره وفيه رد على النصارى لأن عيسى لم يكن كذلك {فإن تولوا} يعني فإن أعرضوا عن الإيمان ولم يقبلوه {فإن الله عليم بالمفسدين} أي الذين يعبد ون غير الله ويدعون الناس إلى عبادة غيره وفيه وعيد وتهديد لهم. قوله لهم. قوله عز وجل: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى الكلمة سواء بيننا وبينكم} قال المفسرون: لما قدم وف نجران المدينة اجتمعوا باليهود واختصموا في إبراهيم صلى الله عليه وسلم فزعمت النصارى أنه كان نصرانياً وهم على دينه وأولى الناس به وقالت اليهود: بل كان يهودياً وهم على دينه وأولى الناس به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا الفريقين برئ من إبراهيم ودينه بل كان حنيفاً مسلماً وأنا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام» فقالت اليهود: ما تريد إلاّ أن نتخذك ربما كما اتخذت النصارى عيسى رباً. وقالت النصارى: يا محمد ما تريد إلاّ أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير فأنزل الله عز وجل: {قل يا أهل الكتاب تعالوا} أي هلموا إلى كلمة يعني فيها إنصاف ولا ميل فيها لأحد على صاحبه، والعرب تسمي كل قصة أو قصيدة لها أول وآخر وشرح كلمة وسواء أي عدل لا يختلف فيها التوراة والإنجيل والقرآن وتفسير الكلمة قوله: {ألا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} وذلك أن النصارى عبد وا غير الله وهو المسيح وأشركوا به وهو قولهم أب وابن وروح القدس فجعلوا الواحد ثلاثة واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله وذلك أنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الشرك ويسجدون لهم فهذا معنى اتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، فثبت أن النصارى قد جمعوا بين هذه الثلاثة أشياء ومعنى الآية قل: يا محمد لليهود والنصارى هلموا إلى أمر عدل نصف وهو أن لا نقول عزير ابن الله ولا نقول المسيح ابن الله لأن كل واحد منهما بشر مخلوق مثلنا ولا نطيع أحبارنا ورهباننا فيما أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع ولا يسجد بعضنا لبعض لأن السجود لغير الله حرام فلا نسجد لغير الله وقيل: معناه ولا نطيع أحداً في معصية الله {فإن تولوا} يعني فإن أعرضوا عما أمرتهم به {فقولوا} أنتم لهؤلاء {اشهدوا بأنا مسلمون} أي مخلصون بالتوحيد لله والعبادة له.
(ق) عن ابن عباس أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهو بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به مع دحية الكلبي إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام اسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم اليرسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون لفظ الحديث أحد روايات البخاري، وقد أخرجه بأطول من هذا وفيه زيادة قوله اليريسيين وفي رواية الأريسيين والأريس الأكار وهو الزراع والفلاح وقيل: هم أتباع عبد الله بن أريس رجل كان في الزمن الأول بعثه الله فخالفه قومه وقيل هم الأروسيون وهم نصارى أتباع عبد الله بن أروس وهم الأروسة. وقيل: هم الأريسون بضم الهمزة وهم الملوك الذين يخالفون أنبياءهم وقيل: هم المتبخترون وقيل: هم اليهود والنصارى الذين صددتهم عن الإسلام واتبعوك على كفرك.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14